مرتبط
مستقبل مهنة الصيدلة في الأردن: بين شبح الإحلال التكنولوجي وفجر التمكين المعرفي

بقلم: د. عمرو النجار
أ- مقدمة: إعادة تعريف الخطر الوجودي
في خضم التحولات المتسارعة التي يعيشها عالمنا، يطفو على سطح النقاش المهني في قطاع الصيدلة بالأردن سؤال وجودي بات يؤرق الكثيرين: ما هو الخطر الأعظم الذي يهدد مستقبلنا؟ هل هو تشبع السوق، أم الأوبئة الطارئة، أم القوانين المتغيرة؟
الحقيقة الصادمة، والتي قد تبدو للوهلة الأولى اتهاماً شخصياً، هي أن الخطر الأكبر على مستقبل مهنتك… هو أنت.
ليس “أنت” بشخصك، بل “أنت” بالنموذج الفكري الذي قد تتبناه دون وعي في مواجهة العاصفة التكنولوجية القادمة، وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence).
تنتشر اليوم سردية شعبوية مفادها أن الذكاء الاصطناعي قادم ليحتل وظائفنا، وأن رجلاً آلياً سيقف مكانك في الصيدلية.
لا أبالغ لو قلت لك أن 90% من هذه السردية هو تهويل إعلامي يفتقر للدقة.
لكن الـ 10% المتبقية هي حقيقة دامغة، حقيقة ستعيد تشكيل ملامح المهنة بشكل جذري لا رجعة فيه.
فالحقيقة ليست أن الذكاء الاصطناعي سيستبدلك، بل الحقيقة الأدق والأكثر إثارة للقلق هي أن “صيدلانياً محترفاً يستخدم أدوات الذكاء الاصطناعي أفضل منك هو الذي سيستبدلك”.
هذا المقال ليس دعوة للخوف، بل دعوة للاستيقاظ.
هو خارطة طريق استراتيجية ومنهجية عملية، مصممة لتزويدك بإطار عمل يمكنك من خلاله تشخيص موقعك الحالي بدقة، وهندسة مسارك المهني لتكون القائد في هذا الواقع الجديد، لا الضحية.
ب- القسم الأول: معادلة السيادة المهنية – الإطار التشخيصي لمستقبلك
قبل أن نخوض في تفاصيل الذكاء الاصطناعي، يجب أن نؤسس لإطار مرجعي نقيس عليه أي تطور أو تحدٍ.
فالتطور المهني ليس ضرباً من الحظ أو نتيجة لـ”دفعة” من دورة تدريبية أو “منتور”؛ بل نتاج منظومة داخلية متكاملة يمكن قياسها وهندستها.
يمكننا صياغة هذه المنظومة في معادلة رياضية دقيقة أسميها “معادلة السيادة المهنية”:
التطور المهني = (الكفاءة × الالتزام) ^ (السلوك + العقلية)
دعنا نفكك هذه المعادلة لنفهم قوتها التشخيصية:
a- أولاً: الجوهر التشغيلي (The Engine Core): (الكفاءة × الالتزام)
هذا هو محركك الأساسي، وهو الجزء الذي يقع تحت سيطرتك المباشرة.
لاحظ علامة الضرب (×) بين العاملين؛ هذا يعني أنه لو كان أي منهما يساوي صفراً، فإن نتيجة المحرك بأكمله ستكون صفراً، بغض النظر عن قيمة العامل الآخر.
الكفاءة (Competence): هي نتاج جمع عاملين:
المعرفة (Knowledge): ما تحصل عليه من الجامعة، والكتب، والدراسات الأكاديمية.
المهارات (Skills): ما تكتسبه من خلال الممارسة العملية، وتطبيق المعرفة، وحل المشكلات الواقعية في ميدان العمل.
والالتزام (Commitment): هو أيضاً نتاج جمع عاملين:
الدافع (Motivation): الحافز الداخلي (الشغف والغاية) والخارجي (الأهداف والأخلاقيات المهنية) الذي يدفعك للنهوض كل صباح.
الثقة (Confidence): إيمانك بقدراتك، ووعيك بذاتك، وشجاعتك لاتخاذ المبادرات.
المشكلة الكبرى في منظومتنا التعليمية والمهنية التقليدية أنها تركز بشكل شبه حصري على بناء “الكفاءة” (وتحديداً المعرفة)، بينما تهمل بناء “الالتزام” بشكل منهجي.
والنتيجة هي محرك يعمل بنصف طاقته في أحسن الأحوال.
b- ثانياً: المُضاعِف الأُسّي (The Exponential Multiplier): ^ (السلوك + العقلية)
هذا هو الجزء الأخطر والأقوى في المعادلة بأكملها.
إنه ليس مجرد إضافة، بل “قوة أُسّية” ترفع ناتج محركك بالكامل.
إنه العامل الذي يحدد مصير كل ذرة جهد بذلتها في بناء كفاءتك والتزامك.
السلوك (Behavior): أفعالك اليومية المنظورة.
هل تلتزم بمواعيدك؟ هل تتعاون مع فريقك؟ هل أنت استباقي في حل المشاكل أم دائم الشكوى؟
العقلية (Attitude/Mindset): منظومة أفكارك ومعتقداتك الداخلية.
هل ترى في كل مشكلة فرصة أم مصيبة؟
هل عقليتك هي “عقلية نمو” (Growth Mindset) تؤمن بالتعلم المستمر، أم “عقلية ثابتة” (Fixed Mindset) ترى أن القدرات محدودة؟
وهنا تكمن الصدمة الحسابية:
إذا كانت قيمة (السلوك + العقلية) سلبية: (متشائم، سلبي، غير متعاون)، فإنها ستدمر كل ناتج محركك.
ستكون كمن يصب الرمل في محرك سيارته الفاخرة.
إذا كانت قيمتها صفراً: (محايد، لا مبالٍ)، سيظل ناتج تطورك المهني يساوي (1) دائماً (أي رقم مرفوع للقوة صفر يساوي واحد).
ستبقى في مكانك، مجرد رقم ثابت في معادلة السوق.
إذا كانت قيمتها إيجابية: (متفائل، إيجابي، متعلم دائم)، هنا يحدث السحر.
هنا يبدأ النمو الأُسّي (Exponential Growth).
كل نقطة كفاءة والتزام تمتلكها ستتضاعف قوتها بشكل مذهل.
تمرين عملي: قبل أن تكمل القراءة، أمسك ورقة وقلماً وقيم نفسك من 10 في كل من المكونات الأربعة: الكفاءة، والالتزام، لالسلوك، والعقلية.
طبق المعادلة وانظر إلى نتيجتك الأولية. هذا هو خط الأساس الذي سنبني عليه.
ج- القسم الثاني: الذكاء الاصطناعي – المصفاة العظمى التي ستغربل المهنة
الآن، وبعد أن أسسنا هذا الإطار، يمكننا أن نفهم الدور الحقيقي للذكاء الاصطناعي.
إنه ليس وحشاً قادماً لافتراسنا، بل هو “المصفاة العظمى” (The Great Sieve) التي ستفصل بين نوعين من الصيادلة:
1- الصيدلاني التقني (The Technician): الذي تتركز 70% من قيمته في أداء مهام روتينية قابلة للأتمتة.
والأتمتة هي تحويل المهام والعمليات من الاعتماد على الجهد البشري في كل خطوة، إلى نظام آلي/برمجي ذكي قادر على تنفيذها بنفسه دون تدخل بشري أو بأقل قدر ممكن من التدخل، مما يوفر الوقت والجهد ويزيد من الدقة والإنتاجية.
2- الصيدلاني المعرفي (The Knowledge Worker): الذي تتركز قيمته في الحكم والتقييم الإكلينيكي، والتواصل الإنساني، وحل المشكلات المعقدة، وبناء العلاقات.
دعنا نوضح ثلاث نقاط جوهرية باستخدام عدسة “معادلة السيادة المهنية”:
I- النقطة الأولى: تحرير القيمة، لا استبدالها
الخطر الحقيقي ليس رجلاً آلياً يقف مكانك.
الخطر هو أن منافسك الذي تبنّى التكنولوجيا سيقوم بكل المهام التي تستنزف 70% من وقتك وطاقتك – الجرد، متابعة الطلبيات، إدخال البيانات، البحث عن النواقص – بكبسة زر وفي ثلاث ثوانٍ.
بينما أنت لا تزال غارقاً في الأوراق والروتين، سيكون هو متفرغاً لتقديم استشارة إنسانية حقيقية، وبناء علاقة ثقة مع المريض، وتقديم قيمة معرفية لا يمكن لروبوت أن يقدمها.
التحليل بالمعادلة: الذكاء الاصطناعي هنا هو أداة ترفع “كفاءتك” بشكل هائل عبر تحرير وقتك ومواردك العقلية.
إهمالك لهذه الأداة هو “سلوك” سلبي يضمن أن تظل غارقاً في مهام منخفضة القيمة، مما يهدر طاقة “التزامك” ويحد من نموك الأُسّي.
II- النقطة الثانية: ضريبة الجهل (The Ignorance Tax)
كل ساعة تقضيها اليوم في أداء مهمة روتينية مملة يمكن أتمتتها، هي فعلياً “ضريبة جهل” تدفعها طواعية من وقتك، صحتك، وراحة بالك.
وكل مرة تردد فيها جملة “ليس لدي وقت لأتعلم”، أنت تضمن فعلياً أنك ستستمر في دفع هذه الضريبة إلى الأبد.
الذكاء الاصطناعي ليس رفاهية، بل هو الأداة الوحيدة التي ستحررك من سجن الروتين، لتركز على ما درسته لخمس أو ست سنوات من أجله: “الإنسان”.
التحليل بالمعادلة: رفض التعلم هو تجسيد لـ “عقلية ثابتة” (Fixed Mindset)، مما يجعل قيمة المُضاعِف الأُسّي في معادلتك تقترب من الصفر.
مهما كان محركك (كفاءتك والتزامك) قوياً، فإن هذه العقلية ستضمن بقاءك في مكانك.
III- النقطة الثالثة: لحظة نوكيا التاريخية (The Nokia Moment)
كلنا نذكر قصة شركة نوكيا التي سخرت من فكرة “هاتف بشاشة لمس”، معتقدة أن لا أحد سيشتريه.
اليوم، الصيدلاني الذي يقول “ماذا سأفعل بالذكاء الاصطناعي؟ هذا كلام فارغ” يكرر المأساة التاريخية بحذافيرها.
العالم يتغير بسرعة مرعبة، وأمامنا خياران لا ثالث لهما: إما أن نكون الـ iPhone أو أن نكون الـ Nokia.
التحليل بالمعادلة: موقف نوكيا كان فشلاً كارثياً في “العقلية”.
امتلكت الشركة كل “الكفاءة” الهندسية و”الالتزام” من موظفيها، لكن “عقليتها” الجامدة و”سلوكها” المقاوم للتغيير جعلا المُضاعِف الأُسّي سلبياً، مما أدى إلى انفجار المحرك وانهيار الإمبراطورية.
د- القسم الثالث: من صيدلاني إلى “مهندس صيدلاني” (Pharm-Architect) – خارطة الطريق للمستقبل
السؤال الآن ليس “هل سيصل الذكاء الاصطناعي إلى الأردن؟”، بل “عندما يصل، هل ستكون أنت من يقوده، أم من يُدهس تحت عجلاته؟”.
إليك خارطة طريق استراتيجية لتضمن أن تكون في موقع القيادة:
1- ابدأ بالتشخيص الدقيق: استخدم “معادلة السيادة المهنية” كأداتك التشخيصية الأولى. كن صادقاً مع نفسك.
هل الخلل في الكفاءة (تحتاج لتعلم المزيد)؟ أم في الالتزام (فقدت الشغف)؟ أم أن لديك أفضل محرك، لكن سلوكك وعقليتك يدمران كل ما تبنيه؟
2- أعد تعريف دورك: من مُوزّع دواء إلى مُستشار صحّي
استثمر الوقت الذي سيحرره لك الذكاء الاصطناعي في تطوير المهارات التي لا يمكن للآلة إتقانها: الذكاء العاطفي، والتواصل الفعّال، والتفكير النقدي، وبناء علاقات الثقة، وتقديم استشارات شخصية متكاملة.
كن أنت العقل المدبر الذي يستخدم البيانات التي توفرها الآلة ليصنع حكمة إنسانية.
3- استثمر في “المعرفة التكميلية”: تعلم أساسيات علم البيانات (Data Literacy)، افهم كيف تعمل خوارزميات الذكاء الاصطناعي بشكل مبسط، تعلم عن التسويق الرقمي وإدارة تجربة العميل (Customer Experience).
هذه المعارف لن تجعلك مبرمجاً، بل ستجعلك “مُحاوراً” ذكياً للتكنولوجيا، قادراً على توجيهها لخدمة أهدافك.
4- تبنَّ عقلية “النسخة التجريبية” (Beta Mindset): المستقبل لن يكون وجهة نصل إليها، إنما عملية تطوير مستمرة.
كن منفتحاً على التجربة، وتقبّل ارتكاب الأخطاء كجزء من التعلم، وكن على استعداد دائم لتحديث “نظام تشغيلك” الفكري والمهني.
هـ – خاتمة: الاختيار بين القيادة والأثرية
في النهاية، الذكاء الاصطناعي ليس قَدَراً محتومًا، بل أداة.
وكأي أداة عظيمة في التاريخ، فإنه سيخلق فجوة هائلة بين من يتقن استخدامها ومن يجهلها.
الفجوة هذه المرة لن تكون مجرد فجوة في الدخل، بل فجوة في الأهمية والجدوى المهنية.
الفرصة بين يديك.
توقف عن انتظار “الدفعة” من الخارج، وابدأ اليوم في هندسة محركك الداخلي.
فالمستقبل لا مكان فيه لمن يقف على الهامش، ينتظر ما سيحدث.
المستقبل يُصنع اليوم، بأيدي أولئك الذين يملكون الشجاعة لإعادة اختراع أنفسهم.
كن أنت المهندس. كن أنت القائد. كن أنت المستقبل.