مقاومة الإنسولين: الجذر الخفي للأمراض المزمنة

مقاومة الإنسولين: الجذر الخفي للأمراض المزمنة

بقلم : د. عبد الرحمن طنبوز

تُعتبر مقاومة الإنسولين (Insulin Resistance) أحد أبرز الاضطرابات الأيضية في العصر الحديث، إذ تمثل العامل الأساسي الذي يقف وراء ظهور العديد من الأمراض المزمنة، بما في ذلك السكري من النوع الثاني (Type 2 Diabetes Mellitus) وارتفاع ضغط الدم (Hypertension) والسمنة (Obesity) واضطراب الدهون (Dyslipidemia) وتكيّس المبايض (Polycystic Ovary Syndrome, PCOS)، فضلاً عن ارتباطها بتطور مرض الزهايمر (Alzheimer’s Disease). وعلى الرغم من انتشارها الكبير، غالبًا ما تمر مقاومة الإنسولين دون ظهور أعراض واضحة، ما يجعل الكشف المبكر والتوعية من قبل المتخصصين، وخاصة الصيادلة (Pharmacists)، أمرًا بالغ الأهمية.

تعريف مقاومة الإنسولين وآلياتها

الإنسولين (Insulin) هو هرمون يتم إفرازه من خلايا بيتا (β-cells) في البنكرياس (Pancreas)، ويلعب دورًا رئيسيًا في نقل الجلوكوز (Glucose) من الدم إلى الخلايا لاستخدامه كمصدر للطاقة. في حالة مقاومة الإنسولين، تفقد الخلايا حساسيتها لهذا الهرمون، مما يؤدي إلى صعوبة دخول الجلوكوز إليها وارتفاع مستوياته في الدم، مع زيادة متزامنة في إفراز الإنسولين لمحاولة التغلب على هذا الخلل. هذه الحالة تمثل البداية لسلسلة من الاضطرابات الأيضية (Metabolic Disturbances) التي تؤثر على الجسم بأكمله.

مقاومة الإنسولين والانتقال إلى السكري من النوع الثاني

يستجيب البنكرياس لمقاومة الإنسولين بزيادة إفراز الهرمون لتعويض النقص في الاستجابة الخلوية. ومع مرور الوقت، يؤدي هذا الضغط المستمر إلى إرهاق خلايا بيتا، مما يقلل تدريجيًا من قدرتها على إنتاج الإنسولين. ومع استمرار هذا التدهور، يرتفع مستوى سكر الدم تدريجيًا ويحدث تطور مرض السكري من النوع الثاني. إذًا، يمكن تلخيص المسار كالآتي: مقاومة الإنسولين تؤدي إلى فرط إفراز الإنسولين (Hyperinsulinemia)، مما يرهق البنكرياس ويضعف إفراز الإنسولين، وفي النهاية يظهر السكري من النوع الثاني.

التأثيرات الأيضية لمقاومة الإنسولين

تمتد تأثيرات مقاومة الإنسولين إلى عدة أنظمة في الجسم.
أولًا، تؤثر على الدهون حيث تمنع تحلّلها وتزيد تصنيعها، مما يؤدي إلى السمنة، وتراكم الدهون في الكبد (Fatty Liver)، وارتفاع مستوى الدهون الثلاثية (Triglycerides) مع انخفاض HDL.
ثانيًا، تؤثر على ضغط الدم من خلال زيادة احتباس الصوديوم والماء في الكلى وتنشيط الجهاز العصبي الودي (Sympathetic Nervous System)، ما يؤدي إلى انقباض الأوعية وارتفاع ضغط الدم.
ثالثًا، تؤثر على الهرمونات الجنسية لدى النساء، حيث يؤدي ارتفاع مستويات الإنسولين إلى زيادة إفراز الأندروجينات (Androgens) من المبايض، مسببة اضطراب الإباضة، وحب الشباب، وزيادة نمو الشعر، وعدم انتظام الدورة الشهرية، وهو ما يُعرف بتكيّس المبايض أو PCOS.

مقاومة الإنسولين والزهايمر

تشير الدراسات الحديثة إلى أن الدماغ نفسه يمكن أن يصبح مقاومًا للإنسولين، مما يقلل من دخول الجلوكوز إلى الخلايا العصبية ويؤدي إلى نقص الطاقة الدماغية. كما أن مقاومة الإنسولين ترتبط بزيادة ترسّب بروتينات الأميلويد والتاو (Amyloid & Tau Proteins)، وهما العاملان الرئيسيان في تطور مرض الزهايمر، بالإضافة إلى ضعف التواصل بين الخلايا العصبية (Neuronal Communication) وتدهور الذاكرة (Cognitive Decline). لذلك يُطلق على الزهايمر أحيانًا اسم “السكري من النوع الثالث” (Type 3 Diabetes) بسبب العلاقة الوثيقة بمقاومة الإنسولين.

مقاومة الإنسولين والمتلازمة الأيضية

عند تجمع السمنة البطنية وارتفاع ضغط الدم واضطراب الدهون وارتفاع سكر الدم معًا، يظهر ما يُعرف بالمتلازمة الأيضية (Metabolic Syndrome)، وهي حالة تزيد بشكل كبير من خطر الإصابة بأمراض القلب (Cardiovascular Disease) والسكري والزهايمر، مما يؤكد الدور المحوري لمقاومة الإنسولين في مسار الأمراض المزمنة.

دور الصيدلاني في مواجهة مقاومة الإنسولين

يلعب الصيدلاني دورًا محوريًا في الوقاية والكشف المبكر لمقاومة الإنسولين والأمراض المرتبطة بها، من خلال متابعة مؤشرات الخطر مثل الوزن الزائد، ارتفاع الدهون الثلاثية، والكبد الدهني، بالإضافة إلى تقديم التثقيف الغذائي والدوائي (Nutritional and Pharmacological Counseling) لتحسين نمط الحياة، ومتابعة الالتزام بالعلاج الدوائي متعدد المكونات (Polypharmacy)، مع الحرص على منع التداخلات الدوائية المحتملة.

الخلاصة

تعد مقاومة الإنسولين أكثر من مجرد اضطراب في مستوى السكر بالدم؛ فهي تمثل الأساس الذي تنشأ عليه معظم الأمراض المزمنة في العصر الحديث. الكشف المبكر والسيطرة عليها عبر التغذية الصحية، النشاط البدني المنتظم، وضبط الوزن يمكن أن يساهم في الوقاية من السكري من النوع الثاني، تقليل خطر الزهايمر، والحفاظ على صحة القلب والدماغ بشكل مستدام.

Tags

Share this post:

Share on facebook
Share on twitter
Share on linkedin

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Lorem ipsum dolor sit amet, consectetur adipiscing elit, sed do eiusmod tempor incididunt ut labore et dolore
%d مدونون معجبون بهذه: