د. ضرار بلعاوي يكتب: الباراسيتامول والحمل والتوحد.. نظرة علمية متأنية لدحض الشائعات المثيرة للذعر

د. ضرار بلعاوي يكتب: الباراسيتامول والحمل والتوحد.. نظرة علمية متأنية لدحض الشائعات المثيرة للذعر

في عصر يطغى فيه طوفان المعلومات، وحيث غالبًا ما تكون أصوات العناوين الصارخة أعلى من صوت الحقيقة، يتحتم علينا كمجتمع أن نرتكز على الأدلة والبراهين، خاصة عندما يتعلق الأمر بمسائل الصحة والعافية. إن التصريحات الأخيرة التي أدلى بها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والتي تشير إلى وجود صلة سببية بين استخدام الباراسيتامول أثناء الحمل وإصابة الأطفال بالتوحد، تُعد تذكيرًا صارخًا بمخاطر المعلومات المضللة. فهذه التصريحات، التي تفتقر إلى أي سياق علمي وتُقدَّم وكأنها حقائق مؤكدة، من شأنها أن تثير خوفًا وقلقًا لا داعي لهما بين الآباء والأمهات الحوامل وعموم الناس. وبصفتي أستاذًا في العلاج الدوائي السريري، أشعر بمسؤولية عميقة تجاه التصدي لهذه الادعاءات وتزويد أهلنا في الأردن – من عامة الناس وزملائي الكرام في المهن الصحية – بمنظور علمي دقيق ومتوازن.

يكمن جوهر المسألة في فهم طبيعة البحث العلمي والفرق الشاسع بين مجرد وجود “ارتباط” ملاحظ وبين إثبات وجود “صلة سببيّة” مؤكدة. هذا هو المفهوم الذي يُساء فهمه بشكل متكرر، والذي غالبًا ما يتم استغلاله لخلق روايات مثيرة للجدل. الارتباط يعني ببساطة أن أمرين لوحظ حدوثهما معًا. على سبيل المثال، قد نلاحظ أن مبيعات الآيس كريم ترتبط بزيادة حالات الغرق. لكن هذا لا يعني أن الآيس كريم يسبب الغرق، بل إن السبب الحقيقي، وهو عامل مربك أو مضلل، هو الطقس الحار الذي يؤدي إلى زيادة استهلاك الآيس كريم وزيادة أعداد من يمارسون السباحة. وبالمثل، عندما تشير الدراسات إلى وجود ارتباط بين استخدام الباراسيتامول أثناء الحمل والاضطرابات النمائية العصبية مثل التوحد، يجب أن نسأل أنفسنا: ما هي العوامل المربكة المحتملة هنا؟

إن المرأة الحامل لا تتناول الباراسيتامول من فراغ، بل تتناوله لسبب ما، سواء كان ذلك ارتفاعًا في درجة الحرارة، أو صداعًا شديدًا. كل من هذه الحالات الصحية الكامنة، خاصة تلك التي تنطوي على التهاب وحمى، قد تم بحثها في حد ذاتها كعوامل خطر محتملة لنتائج نمائية عصبية سلبية لدى الأطفال. من المعقول تمامًا أن يكون مرض الأم نفسه، والاستجابة الالتهابية المصاحبة له، هو السبب الفعلي، وأن يكون تناول الباراسيتامول مجرد مؤشر على وجود هذا المرض. إن غالبية الدراسات حول هذا الموضوع هي دراسات قائمة على الملاحظة، مما يعني أنها تنظر في بيانات من مجموعات سكانية كبيرة وتحدد الأنماط. ورغم أن هذه الدراسات قيّمة لتوليد الفرضيات، إلا أنها لا تستطيع بطبيعتها إثبات السبب والنتيجة بشكل قاطع، بل يمكنها فقط الإشارة إلى المجالات التي تتطلب مزيدًا من البحث الدقيق.

إذًا، ماذا تقول الأدبيات العلمية فعليًا حول هذا الموضوع؟ نُشرت العديد من المراجعات المنهجية والتحليلات التلوية (وهي دراسات تجمع وتحلل نتائج عدة دراسات فردية). أحد التحليلات التلوية الذي نُشر في “المجلة الأمريكية لعلم الأوبئة” في عام 2018، وشمل بيانات من أكثر من 132,000 زوج من الأمهات والأطفال، أشار بالفعل إلى زيادة طفيفة في خطر الإصابة باضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه واضطراب طيف التوحد لدى أطفال النساء اللواتي استخدمن الأسيتامينوفين (الباراسيتامول) أثناء الحمل. وفي الآونة الأخيرة، أشارت مراجعة منهجية نُشرت في عام 2022 وتحليل تلوي آخر من كلية إيكان للطب في ماونت سيناي إلى ارتباط مماثل، مع بعض الأدلة التي تشير إلى أن الصلة قد تكون أقوى مع الاستخدام طويل الأمد للدواء.

ولكن، وهذه هي النقطة الحاسمة التي غالبًا ما تضيع عند ترجمة الأدبيات العلمية لعامة الناس، فإن مؤلفي هذه الدراسات أنفسهم كانوا حذرين جدًا في استنتاجاتهم. فهم يؤكدون باستمرار على ضرورة تفسير نتائجهم بحذر، لأن الأدلة المتاحة مستمدة من دراسات قائمة على الملاحظة وعرضة للعديد من مصادر التحيز المحتملة. إنهم لا يدْعون إلى فرض حظر تام على استخدام الباراسيتامول أثناء الحمل. في الواقع، هم يسلطون الضوء على المخاطر الحقيقية المترتبة على عدم علاج الحمى والألم خلال هذه الفترة الحرجة.

دعونا نكن واضحين: ارتفاع درجة الحرارة الشديد أثناء الحمل هو عامل خطر معروف لمجموعة من النتائج السلبية، بما في ذلك عيوب الأنبوب العصبي ومشاكل نمائية أخرى لدى الجنين. وبالمثل، يمكن أن يكون للألم الشديد والمزمن آثار ضارة على صحة الأم ورفاهيتها، مما قد يؤثر بدوره على الحمل. في مثل هذه الحالات، يظل الباراسيتامول الخيار الأول والأكثر أمانًا لتخفيف الألم والحمى. أما البدائل، مثل مضادات الالتهاب غير الستيرويدية (NSAIDs) كالإيبوبروفين، فلا يوصى بها عمومًا في المراحل المتأخرة من الحمل بسبب المخاطر المحتملة على قلب الجنين وكليتيه. كما أن المسكنات الأفيونية، وهي فئة أخرى من مسكنات الألم، تنطوي على خطر الاعتماد وآثار جانبية أخرى لكل من الأم والطفل.

لذلك، لم تتغير توصيات الهيئات التنظيمية الكبرى والمنظمات الطبية في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك إدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA) وهيئة الخدمات الصحية الوطنية في المملكة المتحدة (NHS). يجب استخدام الباراسيتامول بحكمة أثناء الحمل، بأقل جرعة فعالة ولأقصر مدة ممكنة. وهذه ليست نصيحة جديدة، بل هي الممارسة المعتادة لاستخدام أي دواء أثناء الحمل. الهدف دائمًا هو الموازنة بين فوائد العلاج وأي مخاطر محتملة.

لذلك، أود أن أقدم النصائح التالية:
إلى النساء الحوامل وأسرهن في الأردن: أرجوكن ألا تنزعجن من العناوين المثيرة. فالخوف والقلق اللذان يمكن أن تولدهما مثل هذه المعلومات المضللة قد يكونان أكثر ضررًا من القضية نفسها. إذا كنتِ حاملاً وتعانين من ألم أو حمى، فلا تترددي في استشارة طبيبك أو الصيدلي. يمكنهم مساعدتك على اتخاذ قرار مستنير بشأن أفضل مسار علاجي لحالتك الخاصة. لا تقومي بالعلاج الذاتي لفترات طويلة، ولكن في الوقت نفسه، لا تعاني من ارتفاع شديد في الحرارة أو ألم حاد دون داعٍ بسبب الخوف. إن مرض الأم الذي لا يتم علاجه يشكل خطرًا مؤكدًا، في حين أن الصلة بين الاستخدام الحكيم للباراسيتامول والتوحد لا تزال موضوعًا للبحث العلمي المستمر، وليست حقيقة مثبتة.
وإلى زملائي الأطباء والصيادلة والممرضين والممرضات في الأردن: إن دورنا كمصادر موثوقة للمعلومات أصبح اليوم أكثر أهمية من أي وقت مضى. يجب أن نكون مستعدين للتعامل مع مخاوف مرضانا بتعاطف وبرسالة واضحة قائمة على الأدلة. يجب أن نشرح الفرق بين الارتباط والسببية ونضع نتائج الدراسات المتاحة في سياقها الصحيح. وعلينا أن نستمر في التوصية بالباراسيتامول كخيار أول للمسكنات وخافضات الحرارة أثناء الحمل عند الحاجة، مع التأكيد على رسالة استخدامه بأقل جرعة فعالة ولأقصر فترة ممكنة.

وفي الختام، إن الادعاء بأن الباراسيتامول يسبب التوحد هو تبسيط مفرط وتشويه للأدلة العلمية الحالية. وفي حين أن بعض الدراسات القائمة على الملاحظة قد أشارت إلى وجود صلة محتملة، إلا أنها لا تثبت ولا يمكنها إثبات وجود علاقة سببية. هذه الدراسات هي جزء مهم من العملية العلمية المستمرة، ويجب أن تحفز على المزيد من البحث، ولكن لا ينبغي استخدامها كأساس لتصريحات علنية تسبب خوفًا واسع النطاق وقد تدفع النساء الحوامل إلى تجنب دواء ضروري وآمن.

يجب علينا أن نرفض سياسة الخوف وأن نتبنى مبادئ العلم السليم والحوار العقلاني. وكمجتمع، يجب أن نتعلم كيف نكون مستهلكين ناقدين للمعلومات، وأن نتساءل عن مصدر كل ادعاء والدافع من ورائه، وأن نثق في خبرة المجتمع الطبي والعلمي. إن صحة أمهاتنا وأطفالنا أثمن من أن يتم المقامرة بها في ساحة الرأي العام والإثارة السياسية. فلنمضِ قدمًا بالتزام متجدد بالطب القائم على الأدلة وبالتواصل المسؤول للمعرفة العلمية.

Tags

Share this post:

Share on facebook
Share on twitter
Share on linkedin

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Lorem ipsum dolor sit amet, consectetur adipiscing elit, sed do eiusmod tempor incididunt ut labore et dolore
%d مدونون معجبون بهذه: