هل يمكن للموجات ان تغني عن الادويه ؟

هل يمكن للموجات ان تغني عن الادويه ؟

إعداد:  الصيدلاني  زيد النمران

 

 منذ اكتشاف الكهرباء الحيوية في الدماغ، ظل الباحثون يتساءلون: هل يمكن أن تكون هذه الإشارات أكثر من مجرد مؤشر؟ هل يمكن أن تتحول إلى وسيلة للعلاج؟ في العقود الأخيرة، تحولت هذه التساؤلات إلى مجال بحثي متكامل يُعرف باسم العلاج العصبي بالموجات، والذي يعتمد على إعادة ضبط النشاط الكهربائي للدماغ بدلًا من الاكتفاء بتسكين الأعراض عبر الأدوية. هذه الفكرة ليست بديلًا عن الصيدلة التقليدية، بل امتدادًا لها، وربما شريكًا استراتيجيًا في مستقبل العلاج العصبي.

الموجات الدماغية المختلفة تؤدي وظائف محددة. موجات دلتا (1–4 هرتز) مرتبطة بالنوم العميق والتجدد الخلوي، وزيادتها خارج النوم الطبيعي تظهر في فقدان الوعي أو نوبات الصرع، وفي مرضى إصابات الدماغ، لوحظت موجات دلتا مفرطة تعكس تباطؤًا في الوظائف المعرفية. موجات ثيتا (4–7 هرتز) ترافق أحلام النوم الخفيف والتأمل، وفرطها في اليقظة قد يشير إلى صرع جزئي أو ضعف في الانتباه، وبعض تقنيات الاسترخاء تستهدف تعزيزها بشكل مضبوط. أما موجات ألفا (8–12 هرتز) فهي موجة “اليقظة الهادئة”، تقل في حالات القلق وتدهور الذاكرة، ودراسات عديدة أظهرت أن تعزيز ألفا يحسّن الانتباه والتعلم. موجات بيتا (13–30 هرتز) مرتبطة بالتركيز والتفكير المنطقي والنشاط الحركي، وفرطها قد يرتبط بالتوتر والقلق، بينما نقصها يظهر في بطء الحركة أو بعض الاضطرابات الحركية. وأخيرًا، موجات غاما (>30 هرتز) تُعرف بـ”الدماغ المتكامل”، مسؤولة عن الربط بين المناطق العصبية، ومرتبطة بالوعي والإدراك المعقد، وتنخفض في الزهايمر وبعض أشكال الخرف.

توجد عدة تقنيات للتدخل العصبي غير الجراحي، منها التحفيز بالتيار المتناوب (tACS) باستخدام تيارات ضعيفة (≤2 mA) لضبط الإيقاع العصبي، والتحفيز المباشر (tDCS) باستخدام تيار ثابت لتعزيز أو تثبيط النشاط في مناطق معينة، بالإضافة إلى التدريب العصبي الذاتي (Neurofeedback) الذي يمكّن المريض من تعديل نشاطه العصبي عبر التغذية الراجعة.

تلعب النماذج الحاسوبية دورًا محوريًا في فهم الدماغ، حيث تمثل نماذج مثل Jansen–Rit وThe Virtual Brain نقلة نوعية لأنها تسمح بمحاكاة الدماغ كشبكة كاملة، وقد استُخدمت لتفسير آليات انطلاق النوبات الصرعية، لاختبار بروتوكولات تحفيز آمنة قبل التجربة على البشر، وللفهم كيف تؤثر العقاقير العصبية على النشاط الكهربائي.

يمكن النظر إلى دراسة تأثير الموجات الدماغية على النشاط العصبي من منظور علمي عام، إذ يطرح الباحثون تساؤلات حول مدى إمكانية استخدام هذه الإشارات الكهربائية في تعديل الوظائف العصبية وتحسين الأداء العقلي والسلوكي. يُمكن بناء نماذج محاكاة تتيح دراسة كيفية تغير قوة الموجات المختلفة في الدماغ وربطها بأنماط سلوكية أو معرفية معينة، مثل الانتباه، الذاكرة، والاستجابة للمحفزات الخارجية. هذه النماذج تعتمد على إشارات اصطناعية تحاكي النشاط الكهربائي الطبيعي للدماغ، ما يسمح بتقييم تأثير محفزات كهربائية مختلفة، سواء كانت تيارات متناوبة أو مباشرة، على تنظيم النشاط العصبي.

من خلال المحاكاة النظرية، يمكن ملاحظة تأثيرات محتملة مثل انخفاض فرط نشاط موجات دلتا وثيتا، مما قد يعكس تحسنًا في الانتباه واليقظة، وزيادة تدريجية في موجات ألفا، التي ترتبط بالهدوء العقلي وتحسين القدرة على التعلم. أما موجات بيتا فقد تبين استقرارها، وهو مؤشر على الحفاظ على الوظائف الحركية والمعرفية، بينما يمكن أن تؤدي التغيرات في موجات غاما إلى تعزيز الربط بين مناطق الدماغ المختلفة وتحسين التكامل المعرفي. كما يمكن للنماذج الافتراضية أن تتيح دراسة الأعراض المصاحبة للاضطرابات العصبية، مثل فقدان التركيز، القلق، أو تيبّس الحركة، وملاحظة كيفية تغيرها استجابة لضبط النشاط الكهربائي.

تتيح هذه المقاربة العلمية إمكانية تقييم استراتيجيات علاجية غير جراحية قبل تطبيقها على البشر، بما يشمل التحفيز بالتيار المتناوب أو المباشر، وتقنيات التدريب العصبي الذاتي، بالإضافة إلى فهم كيف يمكن للعقاقير العصبية أن تتفاعل مع الأنماط الكهربائية المختلفة في الدماغ. كما توفر هذه النماذج فرصة لتحديد البروتوكولات الأمثل لكل حالة، بما يدعم تصميم علاجات فردية دقيقة، ويقلل من الاعتماد على التجربة والخطأ في العلاج التقليدي.

من منظور تطبيقي، يمكن لهذه الدراسات أن تفتح آفاقًا واسعة لعلاج حالات متعددة، مثل الصرع، حيث يمكن ضبط النشاط الكهربائي للحد من شدة النوبات، أو الزهايمر والخرف لتعزيز وظائف الذاكرة والانتباه، وكذلك القلق والاكتئاب عن طريق إعادة تنظيم موجات ألفا وبيتا لتحسين الاستجابة العلاجية. كما يمكن أن تسهم هذه الأساليب في التأهيل بعد الإصابات الدماغية والسكتات، حيث يُسهم التحفيز الموجي في تسريع تكيف المناطق السليمة وتحسين نتائج العلاج الوظيفي.

على المستوى الصيدلاني، يمكن دمج الأدوية المضادة للاختلاج مع الموجات لزيادة الفعالية وتقليل المقاومة الدوائية، ومضادات الاكتئاب مع الموجات لتحفيز الاستجابة عند المرضى المقاومين للعلاج، ومنشطات الذاكرة مع الموجات لتعزيز غاما وألفا في الزهايمر، مع إمكانية استخدام EEG كأداة سريرية لمراقبة استجابة الدماغ للعقار مباشرة.

على المستوى العالمي، هناك أبحاث جارية في أوروبا والولايات المتحدة لاستكشاف دمج tACS مع العلاج الدوائي، أما محليًا في الأردن، فقد تم بناء محاكاة أولية تمهّد لإدخال هذه الأبحاث في المنطقة، مما يضع العلوم الصيدلانية الأردنية على خط المواكبة العالمية.

تشمل آفاق البحث المستقبلية استخدام الذكاء الاصطناعي لتصميم بروتوكولات فردية لكل مريض، والأجهزة المحمولة لإجراء جلسات علاجية منزلية تحت إشراف عن بعد، وإنشاء أرشيف EEG عربي لدعم الطب الشخصي، ودمج الغذاء–الدواء–الموجة لصياغة خطط علاجية شاملة لصحة الدماغ.

ختامًا، يمكن القول إنّ العلاج بالموجات الدماغية لا يُنظر إليه بوصفه بديلًا كاملًا عن علم الصيدلة التقليدي، وإنما باعتباره شريكًا إستراتيجيًا يعزّز فاعليته ويكمل أدواره. فالدماغ، في جوهره، منظومة كهربائية حيوية بالغة التعقيد؛ تتسم بالمرونة والقدرة على إعادة تشكيل نفسها عبر ما يُعرف باللدونة العصبية. ومن هنا، يأتي دور الموجات الدماغية كوسيلة تمنح هذا العضو الفريد فرصة لإعادة تنظيم دوائره واستعادة توازنه.

قد لا تكون جلسة علاجية واحدة بالموجات الحلَّ السحري الذي يقلب موازين الأمراض المزمنة، لكنها تحمل وعدًا كبيرًا بكونها القطعة المفقودة التي طالما بحث عنها الأطباء والصيادلة لجعل الأدوية أكثر دقّة وفعالية، عبر تعزيز استجابتها وتحسين نتائجها السريرية. إنّ التكامل بين الموجات العصبية والعلاج الدوائي لا يفتح بابًا جديدًا فحسب لعلاج اضطرابات استعصت على التدخلات الدوائية التقليدية – مثل الاكتئاب المقاوم والعجز العصبي – بل يرسم ملامح حقبة جديدة في الطب العصبي: حقبة يُصبح فيها الدماغ ليس مجرد هدفٍ للعلاج، بل شريكًا نشطًا في عملية الشفاء، بما يقدّمه من قدرة فطرية على التكيّف وإعادة البناء.

المراجع:

Pathak, H., et al. (2023). Transcranial Alternating Current Stimulation (tACS) and its clinical applications: a review. Frontiers in Human Neuroscience.

Pan, R., et al. (2023). Transcranial alternating current stimulation for investigating and modulating brain networks: a review. Neuroscience & Biobehavioral Reviews.

Lee, T.-L., et al. (2023). A meta-analysis of tACS effects on cognitive performance. npj Science of Learning.

Kuznetsova, E., et al. (2022). Evaluation of neurofeedback learning in patients with ADHD: a systematic review. Frontiers in Human Neuroscience.

Jansen, B. H., & Rit, V. G. (1995). Electroencephalogram and visual evoked potential generation in a mathematical model of coupled cortical columns. Biological Cybernetics, 73, 357–366.

Wendling, F., Bartolomei, F., Bellanger, J.-J., & Chauvel, P. (2002). Epileptic fast activity can be explained by a model of impaired GABAergic dendritic inhibition. European Journal of Neuroscience, 15, 1499–1508.

Sanz-Leon, P., Knock, S. A., Woodman, M. M., et al. (2013). The Virtual Brain: a simulator of primate brain network dynamics. Frontiers in Neuroinformatics, 7:10.

Schirner, M., et al. (2022). Brain simulation as a cloud service: The Virtual Brain on EBRAINS. NeuroImage.

Saadoon, Y. A., et al. (2025). Machine and Deep Learning-Based Seizure Prediction: A Scoping Review. Applied Sciences.

Tags

Share this post:

Share on facebook
Share on twitter
Share on linkedin

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Lorem ipsum dolor sit amet, consectetur adipiscing elit, sed do eiusmod tempor incididunt ut labore et dolore
%d مدونون معجبون بهذه: