مرتبط
بلعاوي: دراسة أردنية رائدة تكشف الأخطاء الطبية لوصف الأدوية وترسم مسارًا نحو رعاية صحية أكثر أمانًا

رسالة البحث الأكثر إلهامًا وقوة تكمن في الفعالية المثبتة لتدخلات الصيادلة
في عالم الرعاية الصحية المعقد الذي يتطلب قرارات حاسمة تحت الضغط، تعد رحلة المريض من التشخيص إلى العلاج محفوفة بالعديد من المحطات الدقيقة. ولعل أكثر هذه المحطات شيوعًا، وربما أخطرها، هي عملية كتابة الوصفة الطبية. تمثل الأخطاء الطبية تحديًا هائلاً لأنظمة الرعاية الصحية على مستوى العالم، حيث تتسبب في أضرار يمكن تجنبها وتكاليف باهظة. ومن ضمن هذه الأخطاء، تبرز “أخطاء الوصفات الطبية” كواحدة من أكثر الفئات انتشارًا، وتشمل أي خطأ في اختيار الدواء، أو تحديد جرعته، أو تكراره، أو مدة استخدامه. قد تتراوح عواقب هذه الأخطاء على المرضى من مجرد إزعاج بسيط إلى أذى شديد يغير مسار حياتهم، وفي أسوأ الحالات، قد تؤدي إلى الوفاة. لسنوات طويلة، ظل الحجم الحقيقي لهذه المشكلة في قطاع الرعاية الصحية الأولية في الأردن، الذي يمثل خط الدفاع الأول في النظام الصحي، يكتنفه الغموض. ولكن اليوم، تأتي دراسة علمية فارقة لتسلط ضوءًا ساطعًا على هذه الظلال، كاشفةً ليس فقط عن مدى انتشار هذه الأخطاء، بل ومحتفيةً أيضًا بالأبطال المجهولين الذين يعملون بصمت لمنعها: صيادلة المجتمع.
تقدم دراسة شاملة حديثة، بقيادة الباحث الرئيس الدكتور ضرار حسن بلعاوي، أستاذ العلاج الدوائي السريري من جامعة البترا الأردنية، صورة هي الأكثر تفصيلاً حتى الآن عن واقع أخطاء الوصفات الطبية في العيادات الخارجية بالأردن. هذه الدراسة الاستباقية، التي أُجريت بدقة على مدار 12 أسبوعًا في 12 صيدلية مجتمعية موزعة على أقاليم الشمال والوسط والجنوب في المملكة، تقدم نتائج تدعو للقلق، لكنها في الوقت ذاته تحمل بصيص أمل واضح. كان الهدف من الدراسة هو استقصاء معدل حدوث وأنواع وشدة أخطاء الوصفات الطبية والعوامل المرتبطة بها، بالإضافة إلى تحليل طبيعة ونجاح تدخلات الصيادلة لمنعها. إن نتائج الدراسة، التي نُشرت في مجلة “Pharmacia” الطبية المرموقة، هي بمثابة دعوة للتحرك موجهة إلى الأطباء والصيادلة وصنّاع السياسات والمرضى على حد سواء، حيث ترسم صورة حية لمواطن الضعف الذي يمكن، بجهود موجهة، تحويله إلى ركيزة أساسية لسلامة المرضى.
قبل الخوض في تفاصيل هذا البحث الجديد، من الضروري وضع عمل الدكتور بلعاوي في سياقه الأوسع، فهذا ليس استكشافه الأول لهذه القضية. فقد قدمت أبحاثه السابقة رؤى تأسيسية مهمة حول المشهد الصحي في الأردن. ففي دراسة محورية نُشرت عام 2020، أجرى هو وفريقه بحثًا معمقًا في بيئة قسم الطوارئ بأحد المستشفيات الحكومية الكبرى، حيث المخاطر عالية والقرارات سريعة. وخلصت تلك الدراسة إلى أن أخطاء الوصفات الطبية كانت شائعة بشكل مثير للقلق، وبلغ معدل حدوثها 12.5%. وأبرز ذلك البحث كيف أن طبيعة عمل أقسام الطوارئ المتسارعة يمكن أن تساهم في وقوع الأخطاء، مدفوعة بعوامل مثل تعدد الأدوية للمريض الواحد وضعف مهارات بعض الأطباء في استخدام نظام الوصفات الإلكتروني. لقد كانت نتائج الدراسة في بيئة الرعاية الثانوية تلك بمثابة تحذير صارخ، وكان السؤال الذي يطرح نفسه بطبيعة الحال هو: ماذا يحدث خارج أسوار المستشفيات، في العيادات المحلية والصيدليات المجتمعية حيث يتلقى الغالبية العظمى من المرضى رعايتهم؟ هذا البحث الجديد يجيب عن هذا السؤال تحديدًا.
ينقل البحث الأخير عدسته من المستشفى إلى المجتمع، ونتائجه لا تقل أهمية وإثارة للاهتمام. فقد شملت الدراسة 617 مريضًا وكشفت أن أخطاء الوصفات الطبية تشكل مصدر قلق شائع وخطير في الرعاية الصحية الأولية بالأردن. فقد بلغ المعدل العام لحدوث هذه الأخطاء 14.9%، وهي نسبة تتجاوز تلك التي تم تحديدها سابقًا في قسم الطوارئ، مما يشير إلى أن تحدي سلامة الوصفات الطبية لا يقتصر على أجنحة المستشفيات المزدحمة، بل هو قضية متفشية عبر مختلف مستويات الرعاية الصحية. ومن بين 617 مريضًا، تعرض 102 منهم لخطأ واحد أو أكثر في وصفاتهم، مما أدى إلى رصد ما مجموعه 165 أمرًا دوائيًا خاطئًا.
“إن ما تشير إليه هذه النتائج”، كما قد يعلق الدكتور بلعاوي، “هو أنه بينما تواجه المستشفيات ضغوطًا من نوع معين، فإن الرعاية الأولية لديها مجموعة فريدة من التحديات التي قد تؤدي إلى الأخطاء. فهذه البيئات غالبًا ما تفتقر إلى السجلات الصحية الإلكترونية المتكاملة وفرق المراجعة متعددة التخصصات الموجودة في المستشفيات. أيضاً، قد لا يمتلك الطبيب صورة كاملة عن التاريخ الطبي للمريض أو الأدوية الأخرى التي يتناولها، مما يزيد من احتمالية وقوع الخطأ”.
تكمن عبقرية تصميم الدراسة في محاكاتها للواقع، فمن خلال إجراء البحث داخل صيدليات المجتمع، تمكن الباحثون من اعتراض الأخطاء وتحليلها فور حدوثها، قبل أن تصل إلى المريض. وتكشف النتائج المتعلقة بطبيعة هذه الأخطاء عن حقائق مهمة، حيث كان الخطأ الأكثر شيوعًا هو وصف “الدواء الخاطئ” تمامًا، والذي شكل أكثر من ثلث الأخطاء (33.33%). تلاه “أخطاء الحذف أو السهو” (25.52%)، مثل عدم تحديد معلومات الجرعة أو تكرارها، ثم “الجرعة الخاطئة” (17.19%). هذه ليست مجرد هفوات إدارية بسيطة، بل هي أخطاء جوهرية يمكن أن تجعل العلاج غير فعال أو، ما هو أسوأ، خطيرًا. وكانت أكثر فئات الأدوية ارتباطًا بهذه الأخطاء هي المضادات الحيوية (24.8%) والمسكنات (14.5%)، وهما من أكثر الأدوية التي تُوصف في عيادات الرعاية الأولية.
ولعل النتيجة الأكثر إثارة للقلق هي شدة هذه الأخطاء. ففي حين أن العديد منها كان طفيفًا، شكل جزء كبير منها تهديدًا حقيقيًا لصحة المرضى، حيث تم تصنيف ما يقرب من 22% من الأخطاء على أنها “شديدة الخطورة”، ونسبة صادمة بلغت 4.69% اعتبرت “قاتلة” محتملة. ولفهم أبعاد ذلك، فهذا يعني أنه من بين كل 100 خطأ في الوصفات الطبية، كان لدى خمسة منها تقريبًا القدرة على التسبب بوفاة المريض. وارتبطت الأخطاء القاتلة بشكل شائع بأدوية حساسة وقوية مثل أدوية السكري وأدوية ارتفاع ضغط الدم، حيث يمكن لأي انحراف بسيط في وصفها أن يؤدي إلى عواقب كارثية. هذه الأدلة الدامغة تبدد أي فكرة بأن أخطاء الوصفات الطبية في العيادات الخارجية أقل خطورة من تلك التي تحدث في المستشفيات.
“لا مجال للتهاون هنا”، كما يؤكد الدكتور بلعاوي على الأرجح، “فالخطأ هو الخطأ، بغض النظر عن مكان وقوعه. إن حياة المريض معرضة للخطر بنفس القدر بسبب وصفة ضغط دم خاطئة من عيادة محلية، كما هي في وحدة العناية المركزة. وتثبت بيانات دراستنا بشكل قاطع أن احتمالية حدوث ضرر جسيم قائمة وواضحة في مجتمعاتنا كل يوم”.
ومع ذلك، فإن الدراسة أبعد ما تكون عن مجرد سرد للمشاكل، فرسالتها الأكثر إلهامًا وقوة تكمن في الفعالية المثبتة لتدخلات الصيادلة. فقد أظهرت الدراسة أن صيادلة المجتمع، الذين غالبًا ما يُنظر إليهم على أنهم مجرد صارفي أدوية، هم في الواقع شبكة الأمان الأخيرة والحاسمة في نظام الرعاية الصحية. فقد وثقت الدراسة ما مجموعه 216 تدخلاً صيدلانيًا، حيث تمكن الصيادلة من اكتشاف الأخطاء واتخاذ الإجراءات اللازمة لتصويبها. والأهم من ذلك، أن خبرتهم حظيت بالاحترام والقبول، فقد وافق 75% من المرضى بشكل كامل على تدخلاتهم، كما حظي ما يقرب من 70% من هذه التدخلات بموافقة كاملة من الأطباء الذين تم الاتصال بهم لتصحيح الأخطاء. وهذا يظهر مستوى مشجعًا من التعاون والالتزام المشترك بسلامة المرضى. لم يقتصر دور الصيادلة على تصحيح الأخطاء، بل شمل تدخلات قائمة على “العملية العلاجية” مثل استبدال دواء موصوف أو تعديل جرعته، وتدخلات قائمة على “النتائج الصحية” تضمنت توصيات سريرية أوسع.
هذه النتيجة تبني على الاستنتاجات التي توصل إليها الدكتور بلعاوي في بحثه السابق في قسم الطوارئ، والذي وجد أيضًا أن تدخلات الصيادلة السريريين قللت بشكل كبير من أخطاء الوصفات الطبية بنسبة وصلت إلى 76% في تلك البيئة. هاتان الدراستان معًا تقدمان دليلًا أردنيًا قاطعًا على القيمة الهائلة التي يضيفها الصيادلة لسلامة المرضى، سواء في المستشفى أو في المجتمع. إنهم ليسوا مجرد صارفي أدوية، بل هم جزء لا يتجزأ من الفريق السريري.
كما حدد البحث أيضًا العوامل الرئيسة التي تنبئ بمن هم الأكثر عرضة ليكونوا ضحايا لأخطاء الوصفات الطبية. وتخلق النتائج صورة واضحة للأفراد المعرضين للخطر، مما يمنح الأطباء أداة حيوية لتوخي الحذر المستهدف. فقد وجد أن المرضى كبار السن – فوق 65 عامًا – كانوا أكثر عرضة للخطر بشكل ملحوظ. ويرجع ذلك على الأرجح إلى احتياجاتهم الطبية المعقدة، حيث يعانون غالبًا من أمراض مزمنة متعددة ويتناولون أدوية عديدة، مما يخلق ميدان ألغام من التفاعلات الدوائية المحتملة وموانع الاستعمال. وكان العامل الآخر هو المرضى الذين يعانون من التهابات الجهاز التنفسي الحادة. وتشير الدراسة إلى أن هذا قد يكون مرتبطًا بالممارسة الشائعة وغير الملائمة في كثير من الأحيان لوصف المضادات الحيوية للعدوى الفيروسية، وهي قضية مستمرة في الأردن وحول العالم.
إذًا، ماذا يعني كل هذا للأردن؟ إن انعكاسات هذه الدراسة عميقة وتمتد من عيادة الطبيب الفردية إلى أعلى مستويات السياسة الصحية، فهي بمثابة خريطة طريق للتغيير مدفوعة بالبيانات. “لم نجرِ هذا البحث لمجرد تحديد المشاكل، بل لإضاءة الطريق إلى الأمام”، كما يؤكد الدكتور بلعاوي. “لدينا الآن أدلة واضحة وقابلة للتنفيذ يمكن أن توجه جهودنا لبناء نظام رعاية صحية أكثر أمانًا لجميع الأردنيين”.
بالنسبة للمهنيين الصحيين، فإن الرسالة هي زيادة اليقظة وتجديد التعاون. يجب على الأطباء توخي الحذر بشكل خاص عند وصف الأدوية لكبار السن ولمرضى التهابات الجهاز التنفسي. ويجب أن ينظروا إلى الصيادلة ليس كمدققين خارجيين، بل كشركاء موثوقين في الرعاية. إن قنوات الاتصال المفتوحة بين العيادات والصيدليات ليست ترفًا، بل هي ضرورة. أما الصيادلة، فيجب أن يشعروا بالتمكين من هذه النتائج لمواصلة عملهم الحيوي في اعتراض الأخطاء والتواصل الاستباقي مع المرضى والأطباء على حد سواء.
بالنسبة لصناع السياسات ومتخذي القرار في وزارة الصحة الأردنية، توفر هذه الدراسة الدافع للإصلاح المنهجي. ويقدم الباحثون عدة توصيات حاسمة بناءً على نتائجهم. أولها وأكثرها تأثيرًا هو تطوير وتطبيق نظام وطني للوصفات الطبية الإلكترونية. فمثل هذا النظام، إذا تم ربطه بالسجلات الصحية للمرضى، يمكنه القضاء على العديد من الأخطاء من المصدر عن طريق الإبلاغ عن الحساسية، والتحقق من التفاعلات الدوائية، ومنع الأخطاء الناتجة عن عدم وضوح الخط. ثانيًا، تسلط الدراسة الضوء على الحاجة إلى التطوير المهني المستمر الإلزامي للأطباء، مع التركيز بشكل خاص على أكثر أنواع أخطاء الوصفات الطبية شيوعًا التي تم تحديدها في البحث، مثل الدواء الخاطئ وأخطاء السهو. وأخيرًا، هناك حاجة واضحة لإضفاء الطابع الرسمي على بروتوكولات التواصل بين عيادات الرعاية الأولية وصيدليات المجتمع، مما يمكّن الصيادلة من حل الأخطاء المحتملة بكفاءة وتعزيز سلامة المرضى على نطاق وطني.
في الختام، إن دراسة الدكتور بلعاوي وفريقه هي أكثر من مجرد ورقة أكاديمية، إنها خدمة عامة حيوية. فهي ترفع مرآة أمام نظام الرعاية الصحية الأولية الأردني، لتعكس نقاط ضعفه وقوته الكامنة. إنها تذكرنا بأن سلامة المرضى مسؤولية ديناميكية مشتركة، تعتمد على الأنظمة واليقظة وخبرة المهنيين المتفانين. والتدخلات الهادئة والمنقذة للحياة التي يقوم بها صيادلة المجتمع، والتي تم تسليط الضوء عليها الآن، لا تستحق تقديرنا فحسب، بل تستحق دعمنا المؤسسي الكامل. وبينما الطريق نحو القضاء على جميع الأخطاء الطبية لا يزال طويلاً، فقد قدم هذا البحث خريطة لا تقدر بثمن، توضح لنا بالضبط أين تكمن المخاطر، وتوجهنا نحو مستقبل تكون فيه كل وصفة طبية هي وعد بالشفاء، يُقدَّم بأمان.
 
														



















 
														



 
														