مرتبط
د. ضرار بلعاوي يكتب: “أوبرة” الصيدلة في الأردن.. إلى أين؟

الصيدليات الصغيرة أمام اختبار البقاء
بلعاوي: التواصل عن بعد لا يعوض الدور السريري للصيدلي
✅ سلامة الدواء خلال التوصيل تحتاج عناية خاصة
إن قراءة مشهد الرعاية الصحية في الأردن من خلال عدسة “تعليمات صرف الدواء ونقله عن بعد لسنة 2025” تتطلب تجاوز السرد القانوني للنصوص والغوص عميقا في التبعات الاقتصادية والمهنية المعقدة التي سيفرزها هذا التحول الرقمي لا سيما ونحن نتحدث عن سوق صيدلاني فريد بخصوصيته وتحدياته.
ويعاني قطاع الصيدلة بالمملكة من تضخم هائل في أعداد الخريجين واكتظاظ الصيدليات التي تجاوزت الحاجة الديموغرافية الفعلية، في ظل واقع اقتصادي ضاغط وتآكل مستمر في القوة الشرائية للمواطن.
عضو اللجنة الوطنية لليقظة الدوائية ومستشار العلاج الدوائي السريري للأمراض المعدية الدكتور ضرار بلعاوي، اعتبر أن قراءة مشهد الرعاية الصحية في الأردن من خلال عدسة تعليمات صرف الدواء ونقله عن بعد لسنة 2025، لا يمكن أن تقتصر على الجانب القانوني أو التقني للنصوص، بل تتطلب فهما معمقا لتداعياتها الاقتصادية والمهنية والصحية، على قطاع صيدلاني يتمتع بخصوصية واضحة.
وأشار في تصريح إلى “الرأي” إلى أن السوق الدوائي الأردني، يواجه منذ سنوات تحديات هيكلية متراكمة، في مقدمتها التضخم الكبير في أعداد الخريجين، والاكتظاظ اللافت في الصيدليات مقارنة بالحاجة الديموغرافية الفعلية، إضافة إلى الضغوط الاقتصادية وتراجع القدرة الشرائية للمواطن.
وأكد أن هذه التعليمات وإن بدت في ظاهرها استجابة للتحول الرقمي وتيسيرا لوصول الخدمة، إلا أنها تحمل في طياتها مخاطر حقيقية قد تعيد تشكيل خارطة الدواء في المملكة على نحو قد لا يخدم الصيدليات المجتمعية، التي شكلت لعقود خط الدفاع الأول في منظومة الأمن الصحي، ولا حتى مصلحة المريض على المدى البعيد، خاصة إذا ما أخذت الجوانب الفنية الدقيقة المرتبطة بسلامة الدواء وجودة المشورة الصيدلانية بعين الاعتبار.
وبين بلعاوي أنه عند تحليل التعليمات من منظور اقتصاديات الدواء، تبرز إشكالية كبرى تتمثل في كلفة الامتثال، حيث تفرض المادة الثامنة متطلبات صارمة على عمليات النقل والتوزيع، بما يشمل توفير المبردات والالتزام الكامل بشروط التخزين والنقل الجيد (GDP).
ورغم أن هذه المتطلبات وفق بلعاوي تعد علميا وأخلاقيا غير قابلة للنقاش، إلا أن تطبيقها عمليا يطرح تساؤلات جدية حول الجهة التي ستتحمل أعباءها، في سوق دوائي مسعر حكوميا بهوامش ربح محدودة وثابتة.
وأضاف أن الصيدلي في الأردن لا يملك مرونة رفع سعر الدواء لتغطية تكاليف لوجستية إضافية، كالنقل المبرد أو التعاقد مع شركات توصيل متخصصة، مما يعني أن هذه الكلفة ستقتطع مباشرة من هامش ربحه المتاكل أساسا، وهنا تتسع الفجوة بين سلاسل الصيدليات الكبرى التي تستفيد من وفورات الحجم، وبين الصيدليات الفردية الصغيرة والمتوسطة التي قد لا تستطيع مجاراة هذه المتطلبات دون خسائر حقيقية، الأمر الذي قد يهدد استمراريتها.
وحذر بلعاوي من أن هذه المعادلة قد تفتح الباب أمام نمط من التركز السوقي غير المباشر، حيث تزداد قدرة الكيانات الكبرى على السيطرة على السوق الرقمي، مقابل تراجع الصيدليات المستقلة.
واستشهد بتجارب دولية، لا سيما في الولايات المتحدة وبريطانيا، حيث أدى توسع منصات الصيدلة الرقمية العملاقة إلى إغلاق آلاف الصيدليات المجتمعية، رغم دورها الصحي القريب من الناس، بسبب عجزها عن مجاراة الكلفة اللوجستية والتقنية.
وفيما يتعلق بالمادة الخامسة الخاصة بالمنصة الرقمية، لفت بلعاوي إلى مخاوف مشروعة تتعلق بحيادية الخوارزميات، موضحا أن النص رغم تأكيده على تحويل الطلب إلى أقرب صيدلية جغرافيا، إلا أن التجارب التقنية تثبت أن المنصات المركزية قد تتحكم بتدفق الطلبات وفق اعتبارات تجارية أو شراكات خفية.
وحذر من أن ذلك قد يفرغ مبدأ العدالة الجغرافية من مضمونه، ويحول الصيدلي من مقدم خدمة صحية مستقل إلى منفذ طلبات يعمل فعلياً لصالح المنصة.
ولفت بلعاوي إلى أن هذا التحول يعرف عالميا بظاهرة “أوبرة المهنة”، حيث يصبح الولاء للتطبيق لا للممارسة الصحية، ما يهدد جوهر العلاقة التراكمية القائمة على الثقة بين الصيدلي والمريض، وهي علاقة تشكل أساس الصيدلة المجتمعية.
وعلى الصعيد الفني، ثمن بلعاوي استثناء المواد المخدرة والمؤثرات العقلية من الصرف عن بعد، لكنه يرى أن التحدي الأكبر يكمن في مرحلة الميل الأخير من رحلة الدواء.
وتابع أن المناخ الحار في الأردن يشكل خطرا حقيقيا على سلامة العديد من المستحضرات الحساسة للحرارة، ومع تعدد حلقات التوصيل يصبح ضمان الالتزام الصارم بسلسلة التبريد أمرا بالغ الصعوبة، مما قد يؤدي إلى وصول أدوية فقدت فعاليتها أو جودتها إلى المرضى دون إمكانية التحقق المباشر.
ونوه بلعاوي إلى أن اختزال دور الصيدلي في تواصل مرئي أو صوتي، قد يضعف مفهوم الصيدلة السريرية المجتمعية، إذ إن الزيارة المباشرة للصيدلية تتيح للصيدلي رصد مؤشرات صحية غير لفظية قد تكون بالغة الأهمية، مؤكدا أن غياب هذه الملاحظة المباشرة، في ظل عدم اكتمال الربط الشامل للسجلات الطبية الوطنية في القطاع الخاص، قد يزيد من احتمالات الأخطاء الدوائية ويضعف جودة الرعاية الأولية.
ونبه إلى أن التعليمات بصيغتها الحالية، قد توفر راحة ظاهرية لفئة من المرضى، لكنها في المقابل تحمل مخاطر اقتصادية ومهنية وصحية تستوجب التوقف عندها بجدية.
ورأى أن الأردن في ظل وجود صيدلية في كل حي تقريبا، لا يحتاج إلى توسيع قنوات بيع الدواء بقدر ما يحتاج إلى تنظيم الخدمة داخل الصيدليات وتعزيز دور الصيدلي المجتمعي.
واعتبر بلعاوي أن التكنولوجيا يجب أن تكون أداة داعمة للمهنة ومكملة لدور الصيدلي، لا بديلا عنه أو سببا في تهميشه، داعيا إلى إعادة النظر في آليات التطبيق بما يضمن تحقيق التوازن بين التحول الرقمي، وسلامة الدواء، واستدامة الصيدليات المجتمعية، وحماية حق المريض في رعاية صحية امنة وذات جودة.
























