التحقيقات الصحفية – جمانة سليم
لم يأت حبه لمهنة “الصيدلة” عن طريق الصدفة ، فقد كان لوالده الفضل الاكبر في هذا الانتماء او كما وصفه لنا الدكتور الصيدلاني سميح ابراهيم مسعود الادهم من مواليد نابلس 1926 بانه “عشق مبكر”. الدكتور سميح الادهم اقدم صيدلاني في الاردن حدثنا عن باكورة حبه لمهنة الصيدلة التى تعلمها منذ كان عمره 15 سنة. يقول: كنت ادرس في نابلس بمدرسة “النجاح” والتي هي الان اكبر جامعة في فلسطين ، وكان والدي يعمل تاجرا في” طولكرم” وكان يصطحبني معه في العطلة الصيفية لكي اتدرب في صيدلية صديقه الدكتور منير سختيان وكان والدي يتمنى ان اكون في يوم من الايام صيدلانيا.
حلم حققته
ولم يكن اختياري لتخصص الصيدلة بالجامعة الامريكية في بيروت فقط لتحقيق رغبة والدي بان اصبح “صيدلانيا” ، بقدر ما كان لغاية ومطلب وحلم اسعى لتحقيقه وتجسيده. حيث كانت هناك صورة تلازمني طوال تلك الفترة وهي انني امتلك صيدلة واعمل بها ….لم يكن حبي للمهنة عاديا فهو حب نمى منذ نعومة اظافري وترعرع ليكبر ويصبح عشقا. كنت التقط بعيني واسجل بعقلي تفاصيل كل شيء يقوم به الدكتور سختيان امامي خلال فترة العطلة الصيفية. لم اتغيب او اتاخر يوما عن دوامي في الصيدلية. كنت استيقظ مبكرا وتسبقني قدماي اليها ، لم يكن اهتمامي في تلك الفترة باللعب واللهو مثل اقراني بل كان هدفي تعلم مهنة الصيدلة فهي حلمي وملاذي.
تركيب الادوية
تعلمت تركيب “المراهم” ضد الالتهابات والحروق والجرب وكذلك كنت اقوم بتركيب ادوية السعال والاسهالات الى جانب انني تعلمت كيفية اعطاء المعايير الخاصة بكل تركيبة فبعضها يعطى بكميات متوسطة واخر بكميات اكبر بحسب الحالة والحاجة. كل هذا ساعدني بشكل كبير جدا اثناء دراستي الجامعية فلم يكن هناك اية صعوبات ولهذا كنت من الاوائل في دفعتي والتى كانت تتكون من 11 طالبا اذكر منهم رامز عفيفي وهندي ابو حجلة. ويضيف د. الادهم تخرجت عام 1948 “عام النكبة” ولهذا لم تتوج فرحتنا بالسعادة والبهجة ، فقد عملت بعد التخرج “مسؤولا صيدلانيا” في صيدلية “الحربي” بالقدس وكنت اتقاضي راتبا شهريا قدره 50 دينارا وكان وقتها هذا المبلغ جيد. ويتذكر… كنت وقتها في اوج شبابي اعمل دون ملل واقدم النصائح للناس بان لا يعتمدوا على الطب الشعبي وان يراجعوا عيادات الاطباء وكنت اطمح لتقديم المزيد ولكن جاءت الحرب وحلت النكبة فافقدتنا بيوتنا وجردتنا من احلامنا . ولكنها لم تضعف عزيمتي ولم تثنني عن مواصلة طريقي الذي سلكته منذ طفولتي. طلبت من والدى ان اسافر الى الاردن ، وبالفعل توجهت الى مدينة الزرقاء عام 1949.
كانت محافظة الزرقاء خالية من البيوت ولم تكن فيها صيدلية واحدة . يضيف: استأجرت غرفة كبيرة واسستها لتكون اول صيدلية في الزرقاء وعن طريق اقارب والدي علمت بوجود مستودعين لتوزيع الادوية في عمان وكانت الادوية باستثناء “الحبوب” تباع علي شكل مركبات سائلة يقوم الصيدلاني بتصنيعها في الصيدلية ومن ثم بيعها .
بعد ان انتهيت من تجهيز الصيدلية لم يكن هناك اي اقبال من الناس عليها فقد كان اعتمادهم الاول والاخير للعلاج في تلك الفترة على الطب الشعبي والوصفات العشبية التي كان يصنعها العطار لهم من نباتات معينة. لم ايأس ولم افقد الامل فقد كنت لوحدي وكان اهلي ما يزالون في نابلس . وكان مجموع مبيعاتي اليومية لا يتجاوز الـ 30 قرشا بالرغم من انني كنت كثيرا ما اشجع الناس بصرف وصفاتهم الطبية مجانا وفي مرات عدة اكتفي بما يتوفر لدى البعض من مال حتى وان كان ربع الثمن. يقول: قبل ذلك تزوجت من فتاة من نابلس كنا نعرفها وعاشت معي في الزرقاء وانجبنا ولدين وثلاث بنات ابراهيم “دكتور صيدلاني” وليلى “مساعد صيدلاني”وسوسن وهدى وعبد الحميد .
صعوبات
وتحدث د. الادهم عن الصعوبات التي واجهته خلال مشوار عمله. قال: كان قلة من الناس يدركون اهمية العلاج وكثير منهم كان لا يعرفون كيف يستخدمونه ولهذا كان عملي ارشاديا وتوعويا قبل اي شيء ومن ضمن الصعوبات في تلك الفترة ذكر ان شريحة كبيرة من الناس كانوا يعتقدون ان دور الصيدلاني هو التطبيب وعلاج الامراض لهذا كانت تأتيني السيدات وهن يحملن اطفالهن لكي اعالجهم وكنت ارشدهم بان يراجعوا الطبيب لكي يشخص الحالة .
المهنة .. ماضيا وحاضرا
وعن الفرق بين مهنة الصيدلاني بين الماضي والحاضر ، قال في الماضي كنت اشعر بمتعة اكبر حين اقوم بتركيب الادوية وصناعتها بيدي والتعامل مع المواد الطبية بشكل مباشر.. فقد كنت استطيع ان استشعر الدواء واتحسسه باصابعي وان اميز فعاليته. والرغم ان الربح كان قليلا الا انني كنت اشعر بمتعة كبيرة بهذا الربح البسيط اما الان فقد اصبح دور الصيدلاني وكانه تاجر لدرجة ان الناس يساومونه في اسعار الدواء.
مواقف طريفة
ومن المواقف الطريفة والصعبة التى تعرض لها د. الادهم قال :في الخمسينات من القرن الماضي كان يحضر لعندي مريض لاصرف له وصفة طبية لدواء “مسهّل” لكونه كان يعاني من امساك دائم.
كانت طبيعة الدواء الذي يحتوي على “ملح انجليزي” ذي طعم مر ، وكان يعاني من هذه المرارة ومع استمرار مراجعته لكي اصرف له الدواء اخبرني انه يعاني من هذه المرارة وانه لم يعد يحتملها. واخبرته ان هناك دواء اخر يعطي نفس المفعول وليس له طعم مر ، واعطيته اياه.
وبعد مرور ثلاثة ايام جاءني الرجل وكان يصرخ عند مدخل الصيدلية ، توقعت ان امرا سيئا قد حدث له . وكانت المفاجأة عندما علمت ان سبب صراخه ليس لسلبية الدواء الذي صرفته له.فقد كان جيدا واعطى نفس النتيجة.
فقد كان سبب صراخه هو لأنني لم اخبره عن هذا الدواء مسبقا وبالتالي تركته يتجرع مرارته .
يقول: الصيدلاني لا يجوز له ان يتدخل في وصفة الطبيب او ان يغيرها الا في حالات نادرة بعد ان يتصل بالطبيب المعني ويخبره عن ذلك العلاج ومن المواقف الصعبة التي واجهها يقول : تعرضت كثيرا لمواقف كنت اتعامل مع اصحابها بشكل حكيم حيث كان كثيرا من الشباب يطلبون مني ان اصرف لهم اقراصا مخدرة او مسكنة من باب التعاطي وليس العلاج وكان بعضهم يهددني بتكسير الصيدلية ان لم استجب له وفي كل مرة كنت احاول ان اخرج من هذه “الورطة” بذكاء حيث كنت اطلب من البعض ان يحضر في اليوم التالي كونه ما يريده غير متوفر في الوقت الراهن وفي الاغلب كانوا لا يعودون وربما كان ذلك بناء على حالة انفعالية تنتهي في ذلك اليوم .
تم نشره في صحيفة الدستور الأردنية – الأربعاء 2 آب / أغسطس 2006 |