مرتبط
ما هو معنى مصطلح بلاسيبو (العلاج بالوهم)؟
عرف عصرنا الحديث اهتماماً كبيراً بقدرة الإنسان على تسيير أموره من خلال سيطرته على أفكاره، فنشأت علوم الطاقة وما تشعب عنها، على غرار البرمجة اللغوية العصبية (Neuro Linguistic Programming NLP)، علماً أن الفرضية التي تقول بقدرة الإنسان على التحكم بجسده، وأفعاله، من خلال ما يدور في رأسه من أفكار، أقدم من هذه العلوم بمئات السنين، فهل سمعت عن الــ (بلاسيبو)؟
ما زال العالم مشغولاً في البحث عن أدوية فعالة للأمراض حتى يومنا هذا، حيث تعتبر الطبابة أولى الهموم العامة، لدرجة أنها تؤثر بشدة على نتائج انتخابات الزعماء والرؤساء حول العالم، كما أن البشر قد عرفوا عبر تاريخهم المكتوب مئات الأوبئة، منها ما اندثر، وأصبح مجرد عرَّضٍ صحي لا قيمة له بعد اكتشاف دوائه، ومنها ما يهدد حياة البشر حتى الآن، لكن هناك من يقول أن العلاج موجود دائماً، دون الحاجة لابتكاره، فهل سمعت عن العلاج بالوهم؟.
استخدام أدوية غير فعالة لعلاج أمراض خطيرة
بلاسيبو (placebo)، مشتقة من اللاتينية (placēbō)، التي تعني (سأكون راضياً I will please)، كما تشير الكلمة إلى صلاة الميت في الكاثوليكية، دخلت إلى قواميس اللغة الإنجليزية لتعبر عن العلاج بواسطة أدوية وهمية، من خلال استخدام مركبات غير فعالة أو خاملة، شرط إيهام المريض بفاعليتها، في حين ترجمت إلى العربية (الغُفْل)، بنفس معنى استغفال المريض عن حقيقة المركّب الذي يتناوله، وإيهامه بفعاليته.
أما المعنى الطبي الدقيق لـ بلاسيبو، هو منح المريض دواءً معيناً، والتأكيد على فعالية هذا الدواء، لكن الحقيقة أن الكبسولات التي يحصل عليها، تحتوي على مواد غير فعالة، أو قد تكون فارغة، إلا أنها تعطي نتيجة الدواء الفعال نفسها، هل تؤمن بذلك؟ تعرف معنا على نشأة المصطلح الحديث.
نشأة وبدايات العلاج بالوهم
حصل الطبيب إليشا بيركنز (Elisha Perkins 1741_1799)، المولود في ولاية كونيكتيكت (Connecticut) الأمريكية، على براءة اختراع في شباط/فبراير عام1776، عن اختراعه الذي سماه (Tractors،الجرارات)، حيث تألف الاختراع من مجموعة قضبان معدنية يبلغ طولها حوالي سبعة سنتيمترات، ادعى أنها مصنوعة من معادن غير عادية، ولها أثر كبير في علاج آلام المفاصل الناتجة عن الالتهابات المزمنة، إضافة إلى علاج الروماتيزم، فكان يغرس هذه القضبان التي تشبه الإبر في مكان الألم، ليحصل المريض على نتائج مبهرة، جعلت من التراكتورز التي اخترعها إليشا دواءً رائجاً، تمكن من خلاله من الحصول على الكثير من الأموال.
ادعى بيركنز أن هذه القضبان قادرة على امتصاص الألم عن طريق إخراج السوائل المسببة للألم، مستخدماً تلك المعادن الغريبة التي لم يفصح عنها، التي تمتلك القدرة على سحب تلك السوائل، لكن الكثير من الأطباء لم يرق لهم اختراع بيركنز الغريب، ما جعلهم أخيراً يتهمونه بالخداع والشعوذة، خاصة بعد أن تم اكتشاف أن المعادن هي مجرد حديد صلب ونحاس، لكن هذه التراكتورز لقيت رواجاً كبيرة حتى توقف بيعها عام1803، حتى أن الرئيس الأمريكي جورج واشنطن (George Washington) حصل على مجموعة منها للعلاج.
توفي بيركنز عام1799، لكن الدراسات استمرت لكشف حقيقة اختراعه، حيث قام الطبيب جون هايجارث (Dr. John Haygarth) بإجراء تجارب على مرضى الروماتيزم، مستخدماً أدوات شبيهة بأدوات بيركنز، لكنها من خامات مختلفة، كالخشب، فشعر أربعة من أصل خمسة بتحسن كبير، من هنا أدرك المجتمع الطبي أن الفضل في الشفاء يعود لإيهام المريض بفعالية الأداة، لا إلى اختراع بيركنز نفسه، ومذ ذلك الحين تم التعامل معه على أنه طبيب دجال، لكن الأطباء بدأوا يستشعرون التأثير الحقيقي للأفكار التي تدور في رؤوس المرضى على صحتهم.
كيف تستطيع الأوهام أن تقضي على الأمراض
الاعتقاد والتوقعات؛ هي الثغرة التي يتسلل منها الأطباء المقتنعون باستخدام بلاسيبو، حيث يصروّن أن المريض الذي يتوقع الشفاء نتيجة عقار طبي معين، سيحصل على الشفاء، كما أن المريض الذي يتوقع عدم فعالية الدواء، سيثبط أثر الدواء الفعال على جسده.
لكن هل يعتقد مؤيدو بلاسيبو أن الأدوية الحقيقية غير فعالة؟، الحقيقة أن لا أحد من مؤيدي العلاج بالوهم ينفي فعالية الأدوية الحقيقية، لكنهم في نفس الوقت يؤكدون على الدور الأكبر التي تلعبه التوقعات المسبقة على تناول الدواء، بل يؤكدون أن ثقة المريض بالطبيب تلعب دوراً رئيسياً في الشفاء، كما يشتد المرض كلما كان المريض خائفاً منه، إضافة إلى التناسب الطردي بين حدوث الآثار الجانبية للأدوية، وبين خوف المريض منها.
هناك العديد من الإشارات عبر التاريخ على استخدام التفكير في العلاج
(ضع يدك على الألم و قل بأعلى صوتك إن على الألم أن يزول)، هذه الجملة وجدت على ورقة بردي فرعونية، تعود لأكثر من ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة مضت، وقد اعتبرها البعض دليلاً مباشراً على قدرة الإنسان على الشفاء من خلال التفكير في الشفاء، كما نلاحظ العادة المتوارثة بتقبيل الأطفال في مكان إصابتهم، حيث أن القصد من ذلك، إيهام الطفل بفعالية تلك القبلة السحرية، قد نلاحظ أن الأطفال غالباً ما يتوقفون عن البكاء مع تلك القبلة.
أما في الموروث الأدبي والديني؛ فهناك الكثير من المقولات والحكم التي تبوح بقدرة الأفكار على شفاء الأبدان، على غرار قول الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، فيما نقله عنه الشريف الرضي:
“دواؤك فيـــك ومــــا تـــــشعــرُ وداؤك مــــنـــك ومـــا تبصــــرُ
وتحسب أنك جرمٌ صغيرٌ وفيك انطوى العالم الأكبرُ”
كذلك الحديث الشريف، حيث يقول الرسول محمد (ص):
“لا تمارضوا فتمرضوا، ولا تحفروا قبوركم فتموتوا” (هناك خلاف حول صحة الحديث).
أو قول المسيح للأبرص:
“قم وامضِ.. إيمانك شفاك” لوقا17
أما من حيث الممارسة، هناك من الباحثين من أرجع التأثير للكثير من العادات إلى البلاسيبو، منها الاستشفاء بالقبور والأولياء، حيث يُعتقد أن بعض حوادث الشفاء بزيارة القديسين والأولياء، والتبرك بأضرحتهم، تعود إلى الإيمان القوي بقدرة أولئك المباركين على الشفاء، كذلك يذكر الباحث السوري علاء الحلبي في كتابه العقل الكوني:
“كان ملوك فرنسا مثلاً يملكون مقدرة على شفاء المصابين بالتهاب العقد السلّية، وهي عبارة عن تقيّحات في الغدد اللمفاوية و سببها داء السلّ، فكان الملك يلمس دمامل المئات من المرضى الذين يقدمون له في يوم تتويجه، شرط أن يردّد هؤلاء المرضى البؤساء عبارة :” الملك يلمسك.، الله يشفيك! “. وذُكر عن الملك لويس السادس عشر أنه لمس 2400 مريض في يوم تتويجه! أما ملوك المجر، فكانوا يشفون المصابين باليرقان، وملوك إسبانيا كانوا يشفون من هذيان الاستحواذ، وملوك إنجلترا كانوا يشفون من داء الصرع!، والسبب الذي كان وراء شفاء هؤلاء المرضى ليس الملوك وقدراتهم الإلهية المصطنعة، بل الشعور بالرهبة والمهابة، الذي كان ينتاب هؤلاء المساكين في حضور الملك، بالإضافة إلى إيمانهم المطلق بقدرته على الشفاء فعلاً”.
كما أن هناك علاجاً بالوهم؛ فهناك مرض بالوهم
نوسيبو (Nocebo)، هو المصطلح المعاكس للبلاسيبو في النتيجة، لكنه مطابق له في المعنى، حيث يقوم المريض بتناول الدواء الفعال، لكن دون أن يحصل على أي أثر يذكر، بسبب اعتقاده بعدم فعالية الدواء، كما قد يخضع المريض للعلاج الوهمي (بلاسيبو) دون الإيمان بإمكانية الشفاء، فلا يحصل على نتيجة إيجابية، من جهة أخرى لاحظ الأطباء عدم فعالية بلاسيبو مع مرضى الربو، حيث لم تتمكن البخاخات الوهمية من تخفيف نوبات الاختناق، إلا أنهم أكدوا أن ردود الفعل التي تبدو على وجه المريض، هي ذاتها في الحالتين، لكن دون فعالية حقيقية.
في مركز هيوستن الصحي العسكري عام 1994، قام الطبيب بروس موسلي (Dr. Bruce Moseley)، بإجراء تجربة مثيرة على عشرة مرضى يعانون من آلام في الركبة بسبب التهاب المفاصل، وجميع هذه الحالات تتطلّب عمليات جراحية، لكنه قام بعملية جراحية كاملة لاثنين منهم فقط، كما قام بعملية جزئية لثلاثة أخرين، أما الباقين؛ فقد قام بجرح ركبهم بالمشرط ثلاث مرات ليجعلها تبدو أنها قد خضعت لعملية جراحية بالفعل، لكن المفاجأة كانت بعد ستة أشهر، حيث صرّح جميع هؤلاء المرضى بأن الألم قد زال تماماً!، ما اعتبر نجاحاً لنمط جديد من الجراحة، جراحة بلاسيبو.
أخيراً… هناك صراع أبدي (ربما يكون سرمدياً)، بين الاتجاه الذي لا يؤمن بأي تأثير للعلاج بالوهم، وبين الاتجاه الذي يؤمن بتأثير الأفكار الفعال على الجسم، هذا الصراع بلغ أوجه مع استخدام تقنيات التنويم المغناطيسي للعلاج في القرون الوسطى، كما استخدمت للتخدير قبل اختراع المورفين، كما عرف جولات عنيفة مع بداية استخدام بلاسيبو، لكنه إلى الآن لم يحسم، وربما لن يسحم أبداً.